هذه مشاهد من رحلة الأديب الدكتور يوسف وغليسي العراقية، يصف فيها ما عاشه بمناسبة احتفالات مئوية الشاعرة نازك الملائكة في عاصمة الرشيد و المتنبي، زار مرقد الإمام الحسين و طاف بشوارع صنعت التاريخ و المجد قديما و حاضرا، ونقل لنا أجواء بغداد ببهجة الحاج إلى موطن الشعر و الأدب و الحضارات المتعاقبة منذ فجر التاريخ في بلد لقن البشرية فن الكتابة.

يقول الأديب الدكتور يوسف وغليسي: حين بُشّرتُ بأنني مدعوّ إلى بغداد للمشاركة في تظاهرة عربية حاشدة بمناسبة مرور قرن على ميلاد شاعرة العراق الكبرى نازك الملائكة، تعثّرت لغتي، واستفاق حلمي الأثيل النائم في أعماقي، وراحت الكلمات الساحرات الصامتات ترقص طربا على لساني الأعقد !
تعاورتني مشاهد عراقية أخاذة متداخلة : حضارات بلاد الرافدين، الخلافة العباسية، مراقد الأئمة، الرصافة والجسر، شارع المتنبي، دجلة والفرات، الموسوعة الصغيرة، مجلات الأقلام والمورد وثقافات عربية…، مواويل ناظم الغزالي، قصائد السياب والجواهري…، رائعة محمود حسن إسماعيل (بصوت أم كلثوم):
بغداد يا قلعة الأسود **يا كعبة المجد والخلود
ثم تذّكرتُ حلما عجيبا رأيته السنة الماضية؛ إذ رأيتني مقيما في مكان عراقي عليٍّ مقابل لقبّة مذهّبة تشعّ جمالا وجلالا، لم أعرف –حتى في منامي- أهيَ في الكاظمية أم النجف أم كربلاء؟
ورحتُ أغطّ في حلم تاريخي عراقي عميق…
وحين أفقتُ من نشوة الحلم، بدأتُ في التحضير (العلمي) لمناسبة الحلم؛ وقد كلّفتُ بمداخلة حول نازك، رهنتُ لها ما يقارب أربعين ليلة من ليالي العمر!
** ضيافة فوق العادة.. و كرم لا حدود له!
لا جدال في الكرم العراقي الذي رسّخَتْه في ذاكرتي حكاية رواها لي د. عبد الله الغذامي، ذات لقاء خليجي قديم، عن سائق سيارة أجرة طوّفَ به جلّ صيدليات بغداد، بحثا عن دواء ضروري، فلم يُدركاه إلا في آخر النهار، وحين أدركاه، أصرّ السائق العراقي على أن يدفع ثمنه بنفسه، وألا يقبض أجرة السيارة أيضا! بعدما انتبه إلى أنّ الراكب ليس عراقيا بل هو ضيف العراق.
كلّ شيء كان مهيّأ لضيافة موغلة في الكرم:
رحلة جوية مريحة من مطار مدينتي (قسنطينة) إلى مطار اسطنبول (مركز الملاحة الجوية العالمية! )، ومنه إلى مطار بغداد؛ حيث استُقبلنا في باب الطائرة (أنا والشاعران التونسي آدم فتحي والمغربي مخلص الصغير).
دخلنا القاعة الشرفية على السجاد الأحمر، تناولنا ما لذّ وطاب من المرطبات والمشروبات، فيما تولّى مستقبِلونا إجراءات تأشير الجوازات، لنستقلّ بعدها سيارة سوداء فارهة رباعية الدفع، تمخر شوارع شاسعة وسط أساليب النخل؛ ومن عجب أنّ كثيرا من نخيل العراق يحمل أرقاما هي بمنزلة معالم يُهتدى بها فيما علمت!
الحواجز الأمنية التي تعجّ بها المنطقة الخضراء كنّا نعبرها بسلام، لأنّ العبارة السحرية التي تحملها بطاقة السائق (مكتب رئيس الوزراء) كانت خير عون لنا!وصلنا فندق المنصور ذا النجوم الخمس، المتطاول مقابلا لمسرح الرشيد (حيث مجريات الافتتاح والاختتام).
دخلت غرفتي في الطابق السادس منتشيا بإطلالة شاعرية ساحرة على نهر دجلة، وعلى وقع تلك النشوة نمتُ ساعات كافية كي أتهيّأ لحلم العمر!
في مرقد أمير المؤمنين :
كنتُ قد أخبرتهم بأنني أحلم –منذ زمن بعيد- بزيارة النجف وكربلاء! نسّقتُ للأمر كما ينبغي!
قلتُ لوالدتي العزيزة، ممازحا لها، قبيل السفر : سأزور يا أمي سيدنا عليًّا –إن شاء الله- وسأدعو الله هناك أن يغفر لك تلك الزيارات (الجاهلية) القديمة إلى (سيدي الدراجي) الذي لا نعرف أصلا له أو فصلا! ابتسمتْ وقالت : كنّا على نيّاتنا، نعتقد أنّه أحد أولياء الله الصالحين!
من الطرائف التي حدثت لي قبل الزيارة، والتي لا يصنعها -عادة- إلا الشعراء، كيفما كانت مذاهبهم، أنّ صديقا (شيعيا) عزيزا أشفق عليّ من متاعب الرحلة النجفية الطويلة القائظة، وقد كنتُ للتّو قادما من رحلة بعيدة، فقال لصديقنا المرافق لي في رحلتي :
المراقد متشابهة في قببها وقداستها؛ لمَ لا تأخذه -فقط- إلى الكاظمية القريبة من هنا، حيث مرقد الإمام الكاظم، وتقول له هذا الإمام عليّ!!!
وضحكنا (حين أعادا عليّ الحكاية) في حدود ما تسمح به قداسة الصلة الإمامية الاثنيْ عشرية بين الجدّ والحفيد، ثم شرعنا في الرحلة المقدسة!
ركبنا سيارة رباعية الدفع، مكيّفة، مريحة، يجاورني صديقي الشاعر الناقد د. حسين القاصد ، وأمامي الأخ الدليل المرافق لنا الذي اكتشفنا فجأة أنّه حفيد الشاعر الكبير الراحل حسب الشيخ جعفر، بدأ يسألني عن سرّ رغبتي الجامحة في هذه الزيارة غير المبرمجة! ولماذا النجف تحديدا وليس كربلاء أو الكاظمية أو حتى الأعظمية…؟
انتبهتُ إلى ملامح انزعاج من أسئلته (المذهبية) على وجه صديقي القاصد، لكنني لم أر أيّ داعٍ للانزعاج؛ لم أكن بحاجة أبدا إلى أيّ “تقيّة”!
كنتُ شفّافا جدا إلى حدّ الإجابة عن أسئلة كثيرة غير مطروحة، تذكّرتُ بعض ما قلتُ في قصيدتي القديمة (العشق والموت في الزمن الحسيني) عام 1995 :
“أبكيكمُ آل الحسين تشيّعا * وتفجّعا.. وتشوّقا .. وتذكّرا
ذكراكمُ موج يزلزل شاطئي * ويهزّ قلبا بالعروبة خُدّرا
العُرْبُ قد هجرَ الحسينُ دماءهم * ودمُ الحسين إلى عروقي هاجرا
بغدادي! ودمُ الحسين فصيلتي * بغداديٌ شهَرَ الحسينَ ليثأرا
(نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى) * ما الحب إلا للحسين وحيدرا”
وما قلته في مقدّمة ديواني الثاني (تغريبة جعفر الطيار)، ثم ردّدتُه على مسامع أخينا : اسمع يا أخي! أنا مسلم سنّي، ولا أرى “سنّيتي” مانعا لي أبدا من التعلق بآل البيت، إنّ حبّنا لعليٍّ عليه السلام من حبّنا لرسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ألم يقل : “من أحبّ عليًّا فقد أحبني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله…”، ولكنني أرفض التأميمات الطائفية الجاهلة التي تحتكر رموزا إسلامية كونية كآل البيت رضوان الله عليهم، أو تدرجك في خانة مذهبية محّددة إذا أعلنتَ حبّك لهم…
ثمّ إنّ عندنا مقولة شائعة تقول : الجزائريون شيعةٌ فطرةً، سنّةٌ مذهبا!
أعجبته هذه المقولة فالتفت إليّ ضاحكا وقال : وإن شاء الله شيعة فطرة ومذهبا! قلبي يحدّثني بأنّك ستغدو شيعيا!
ضحكنا جميعا ثمّ قلت له : لا أظن!
ورحتُ أشرح لصديقي القاصد قناعتي بأنّ تحوّل المسلم من مذهب إلى آخر هو فتنة كبرى وخسارة للمذهبين معا!
أتريدني أن أتّخَذ هُزؤا كما اتُّخذ المتشيّع التونسي التيجاني السماوي الذي ألّف كتابا غريبا بعنوان مريب :(ثمّ اهتديت)!
سألت صديقي : هل هناك حرج لدى إخواننا الشيعة إذا علموا أنّ زائر المرقد سنّي؟ فقال: لا، بل ستكون مرحّبا بك أكثر…
كلّما اقتربنا من النجف، وتخيّلتني في مرقد أمير المؤمنين، ازداد قلبي حبّا ورغبة وخوفا وتملّكتني رهبة عجيبة لا أعرف سرّا لها!
بين الحلّة والنجف، فوجئت بمرقد أيوب عليه السلام!
هل هو مدفون هنا؟ إنّ السوريين والعمانيين يروْن غير ذلك…
على مشارف المرقد الشريف، رأيتُ تلك المقبرة الأسطورية العجيبة؛ مقبرة السلام، يقال إنّها أكبر مقبرة في العالم؛ تضمّ ملايين القبور وقد بُنيت بهندسة مكانية لافتة، كلّ الشيعة يدفِنون موتاهم فيها؛ طمعا في شفاعة أمير المؤمنين وكرامة تربة المكان المجاور لمرقده المقدّس….
يصلّى على الميت في المرقد، ويطاف به على الضريح، ثمّ يرقد بسلام؛ حيث يعتقد بعض المغالين –فيما قرأت- أنّ دفين (وادي السلام) لا يتعرّض لا للعذاب ولا للحساب!!!
وأعجبُ من ذلك كلّه تلك الديار المبنية على حدود المقبرة؛ أتخيّل أنّ أهلها يحيون في الموت ويموتون في الحياة!
على عتبات المرقد قرأتُ لافتة/تحية أمير المؤمنين :
(السلام عليك وعلى ضجيعيْك آدم ونوح، وعلى جاريْك هود وصالح، ورحمة الله وبركاته)!
ثمّ انتبهتُ إلى يميني فإذا أنا أمام مشهد مرقد كلٍّ من هود وصالح عليهما السلام!
تذكّرتُ حكايات بعض المراقد الوهمية التي تنتشر في مناطق إسلامية شتى، لم أستطع تصديق الحكاية؛ ها هنا مرقد يعجّ بملايين زوار ابن عمّ رسول الله (ص)، وقريبا منه مرقدان لنبيّين كاملين لا تكاد ترى فيهما زائرا!
كيف يحدث هذا؟
لم أكن مهتما كثيرا بجواب لسؤالي، فقد تجاوزت عتبات التفتيش وصرتُ عند العتبة المقدّسة:
سلام عليك يا أمير المؤمنين، يا ابن عمّ رسول الله، وصهره وأخاه بالمؤاخاة في الدنيا والآخرة!
سلام عليك يا باب مدينة العلم…
أنظرُ إلى من النظرة إليه عبادة، أتقصّى تفاصيل المكان بعينيْن مذهولتين، تباغتهما الأنوار من كلّ جانب، والقلب يفيض خشوعا وخوفا ورهبة؛ بشكل يشبه المشاعر التي باغتتني حين رأيتُ الكعبة الشريفة أولّ مرة!
حين بلغنا الروضة الحيدرية خشيت في لحظات أن يغشى عليّ، في تلك الأجواء الروحانية الطاغية، فاستمسكت بصديقي القاصد وأنا أسمع نحيب بعض الزوار وهم يمسكون بشباك الروضة، ثم استعدتُ كامل عقلي، وأردتُ أن أوثّق ذلك المشهد في صورة خالدة، فكان لي ذلك وبصعوبة شديدة، لأنّ حراس الروضة يرفضون التصوير في ذلك المكان تحديدا…
لم نستطع الطواف بأرجاء المرقد كلّها، هنا الزائرون وهنالك الزائرات؛ بينهما برزخ لا يبغيان!
ولم أتمكن من مشاهدة كلية للمرقد ولا لقبّته الذهبية التي اكتفيتُ برؤيتها من بعيد؛ كنت على يقين بأنني سأرجع يوما إليه!
بعد المغرب، غادرنا المكان المقدس في هدوء وسلام، كنت أمنّي النفس بزيارة كربلاء، وكنت أتمنى أن أقف على جسر المسيّب فوق نهر الفرات؛ وأن أغني بصوت عالٍ مع ناظم الغزالي:
“ميحانا .. ميحانا
غابتْ شَمِسْنا الحِلو ما جانا
حيّاك بابا حيّاك
ألف رحمة عْلى بيَّك
هاذولي العذِّبوني
هاذولي المرْمروني
وِ على جسر المسيّبْ سيّبوني….”
لا أدري كيف تسلل هذا المقطع الأخير تحديدا –كما هو- إلى ملامح قصيدة (وافرة) بدأت تتشكّل في خاطري، مطلعها :
(على جسر المسيّب سيّبوني) * خذوني نحو مرقده خذوني
ضحك صديقي القاصد حين أبلغته -من قبل- رغبتي في زيارة جسر المسيّب، فقال: جسر المسيّب ليس معلما كبيرا يستحق الزيارة!
قلت له : أنت لا تدري كيف نصبَ ناظم الغزالي هذا الجسر على فرات قلبي!
تُنكح العراقية لجمالها وطبخها!
أتراني كنتُ –أنا المتيّم بالعراق- أستلذّ المأكولات العراقية لأنها لذيذة فعلا، أم تراها تبدو لي لذيذة لأنّها عراقية؟
لا أدري، ولكنني أشهد بلذاذتها التي لا تقاوَم!
فقد تناولتُ السمك (المسڨوف)، الذي يُختار لنا ويشوى لنا أمام أنظارنا، في مطعم شاعري عائم على ساحل نهر دجلة، مع الأصدقاء: عبد الله إبراهيم وعلوي الهاشمي وعارف الساعدي وشوقي بزيع وفتحي آدم ومخلص الصغير.
وكم كان شهيا عندي، أنا الذي لا شأن له بالمأكولات البحرية!
الأعجبُ من ذلك أنّ الأسماك العراقية أسماك نهرية في عمومها، ولي تاريخ طفولي سيء مع أسماك النهر التي أتذوقها بصعوبة بالغة، لكنّ “التكّة” العراقية جعلتني أعيد النظر في الأمر، وأومن مرة أخرى بأعجوبة (يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر)!
وكذلك نُصحت بأكلة صباحية تسمى (الڨيمر)، هي أشبه ما تكون بالقشطة، في بياضها ونعومتها ومذاقها اللاسكري…
وأشهد أنني لم أفهم رائعة ناظم الغزالي (يا أمّ العيون السود) ولم أقدّرها حقّ قدرها؛ حيث يقول : “خَدّك الڨيمر أنا اتْريّڨْ مِنَه) إلا يوم أكلتُ (الڨيمر) مع صديقي فاضل التميمي، وكنتُ -قبل أكله وقبل سماع شروح صديقي على حاشية الأغنية- أفهم المقطع على أنّه الخدّ القمري، وشتّان ما القمر والڨيمر!
وأمّا (البقلاوة العراقية) التي لم تكن تغادرني في غرفتي ولا في مطعم الفندق، فقد تناولت منها ما يكفي للانتقام من السكري الذي بدأ يزورني دون حياء!
وهي أقلّ فخامة من (البقلاوة القسنطينية)، لكنها أرقّ وأشهى!
وكذلك أكلتُ البامية، وهي شبيهة جدا في مذاقها ونعومتها بالڨناوية القسنطينية.
ولقد علمتُ من صديقي التميمي أنّ موهبة الطبخ لدى المرأة العراقية من مؤهلات الزواج ومتطلباته، ومن فقدت تلك الموهبة كان الطلب عليها أقل!
قلت له: إذن تُنكح المرأة العراقية لمالها وجمالها وحسبها ودينها وطبخها!
فقال لي ببديهة سريعة: فاظفر بذات الطبخ تربت يداك!!!
زيارة متحفية .. افتتاح ملكي … وتسكّع في ليل بغداد :
صباح اليوم الأول كان مخصّصا لزيارة المتحف العراقي الوطني؛ حيث عشنا زهاء ساعة من الزمن في أعماق الحضارات التي تعاقبت على العراق العظيم، مع شروح تاريخية سخية، والتقطنا صورا خالدة مع كنوزه الأثرية التي ظلّت دائما عرضة للنهب لا سيما أثناء الاحتلال الأمريكي الغاشم…
أمّا المساء فكان خاصا بحفل الافتتاح..
حضور دولة رئيس الوزراء (المهندس محمد شياع السوداني) الذي يبدو أنه يحظى بإعجاب شعبي عراقي عام (خلافا لما كان يحدث مع الحكومات السابقة! ) كان مكسبا كبيرا للمؤتمر واعترافا من الدولة العراقية بأنها لن تنسى أبدا رموزها الأدبية..
ذلك الحضور سبّب زحمة في دخول مسرح الرشيد،، التفتيش الدقيق شرّ لا بد منه! لفت انتباهي أنّ العراقيين لا يضيقون أبدا بإجراءات التفتيش؛ فليس قليلا ما عاشوه من جرائم التفجيرات!
أسماؤنا- نحن ضيوفَ العراق- كانت مدوّنة على مقاعد الصف الأول.
استهلّ الكلمات البروتوكولية الشاعرُ د. عارف الساعدي، رئيس المؤتمر..
كم استهواني منصبه الرسمي (مستشار رئيس الوزراء الثقافي! )؛ إذ لم أسمع من قبل بأيّ رئيس عربي أشار على نفسه بمستشار ثقافي!
كان د. عارف الساعدي فارع القامة، إذاعي الصوت، فصيح اللغة، بليغ الأسلوب، وأما رئيس الوزراء فقد كان تداوليا بالمعنى العملي، وكانت كلمته “أفعال كلام” ؛ لقد ذكّر بأنّهم أرادوا الاحتفاء بولادة نازك الملائكة لا بوفاتها؛ احتفاءً بالحياة لا بالموت!
وأنّه أمر بإصدار طابع بريدي يحمل صورتها، وكلّف نحّاتا بصناعة تمثالها البرونزي الذي سيُنصب في بغداد كما نُصبت تماثيل كبار شعراء العراق، وأمرَ بتكليف مدارس العراق كلها كلمة موحّدة (يوم الغد) حول نازك ودور المرأة في النهضة العراقية…
وكانت رئاسة الوزراء قبيْل ذلك قد تكفلت بنشر الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة التي صدرت عشية الافتتاح في مجلدين اثنين يضمان 1100 صفحة.
عائلة الشاعرة -كذلك- كانت ممثلة في كلمة سؤدد عوني (ابن شقيقتها الصغرى سهى). ثم جاء دور الشعر والموسيقى..
وقد شنّفت الآذان بقصائد جميلة لشعراء كبار منهم العراقيون (كاظم الحجاج، فائدة آل ياسين،…)، ومنهم الضيوف كالبحريني علوي الهاشمي، والإماراتي محمد البريكي، والأردني أكرم الزعبي،…
أما الموسيقى فكانت فاكهة المساء، مع فرقة (سومريات) الرائعة التي يتجاوز عدد أفرادها 50 فردا، وهي فرقة نسوية تضم أعذب الأصوات وأجمل الوجوه!
استمعت إلى جمال (موطني) وجلاله، واستمتعت إلى أقصى الحدود بأغنيتي المفضلة (ميحانا ميحانا)…
وكانت دهشتي كبيرة حين التفتُّ إلى منتصف القاعة فرأيتُ الجمهور يحيّي مطربي الكبير الأثير سعدون جابر الذي كثيرا ما كنت أترنّم بروائعه المعروفة (عشرين عام، آخر كلام، يوم الما شوفك، صغيرون، اللي مضيّع ذهب، يا أمي،…) كنت أمنّي النفس بأن أسلّم عليه وأقول له :
(يُوم المَاشوفَكْ ما رِيدْ عْيوني) كما تقول أغنيته الجميلة!
ولكن صعب عليّ ذلك؛ لأنني اضطررتُ إلى الخروج مع صديقي د. فاضل التميمي للتسكع قليلا في ليل بغداد، وشراء بعض الهدايا الأسرية….
كانت ليلة ضوئية ساحرة، وكان صديقي التميمي كريما إلى حدّ محرج جدا.. لم أفوّت فرصة زيارة الأعظمية، على الأقل لأخذ صورة أمام جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
وكم تأسّفتُ لأنّ الوقت تجاوزنا ولم نستطع عبور (جسر الأئمة) إلى مرقد الإمام الكاظم، كما لم أستطع زيارة سيدي عبد القادر الجيلاني (قدّس الله سره! )، ولكنني تعزّيتُ بالمشاهدة اليومية لقبّة مدرسته التي أطلّ عليها من غرفتي بالفندق.
في حضرة نازك الملائكة :
جرت أشغال اليوم الثاني (الخميس 25 مايو) في قاعة قرطبة بفندق المنصور، وكانت خاصة بالمداخلات النقدية، المتعلقة بتجربة نازك الملائكة، والتي توزّعت على جلستين اثنتين:
أدار إحداهما د. عبد الله إبراهيم، والأخرى د.عبد الستار جبر.
قُدّمت خلالهما ثماني مداخلات لخمسة أسماء نقدية عراقية (فاضل ثامر، عبد الزهرة زكي، عبد العظيم السلطاني، فائز الشرع، أحمد الزبيدي)، وثلاثة من خارج العراق (أنا والعُمانية سعيدة بنت خاطر الفارسي/تلميذة نازك الملائكة في جامعة الكويت، والشاعر اللبناني الكبير شوقي بزيع).
كان تحدّيا لي أن أحاضر أمام النخبة العراقية عن شاعرة العراق الكبرى التي يعرفها أيّ عراقي!
ولأنني كنتُ مدركا –مذْ كُلفتُ بالمهمة الشاقة- أنّ أيّ تهاونٍ مني ستكون عواقبه كعاقبة (جلب التمر إلى هَجر)! أو السعي (إلى الهيجا بغير سلاح)! فقد قضيتُ أكثر من شهر كامل في صومعة نازك، بين شظايا أشعارها ورمادها، بين مآسيها وأغانيها، باحثا ومنقّبا عن آثارها الشعرية والنقدية المعروفة، والمجهولة العالقة بمجلات الخمسينيات التي احتضنتْها في أوج نشاطها؛ فمشّطتُ جلّ أعداد ثلاث مجلات لبنانية (الأديب، الآداب، شعر) عثرتُ فيها على ما لم يخطر ببالي فيما يتصل بها!
وقد دبّجتُ بحثا عنوانه (التشكيل الموسيقي لدى نازك الملائكة بين الموقف النظري والممارسة الشعرية)، بنيتُه على إحصاء عروضي شامل في أعمالها الشعرية،ثم انطلقتُ لاستكشاف أسلوبيتها الإيقاعية من خلال اختياراتها الوزنية واختراعاتها العروضية، والوقوف عند طبعها العمودي الغلاب برغم ريادتها التحررية.
وخلال ذلك راجعتُ قصيدتها (الكوليرا)، لا لمعاودة الخوض في التفاصيل الإشكالية للريادة التاريخية بينها وبين السياب أو شعراء أبولو الذين قلّدهم المرحوم علي عشري زايد ريادة تلك التجربة في دراسته الشهيرة (البدايات المصرية الأولى للشعر الحر)، بل لإعادة تفكيك (الكوليرا) إلى مقاطعها الأربعة وسطورها الاثنين والخمسين وتفاعيلها (الخببية) المئتين والعشرين، ومحاولة سحب نظامها الإيقاعي على نظام الموشحات، وذلك كله لأجل اختبار فرضية قديمة افترضها كاظم جواد والسياب في الخمسينيات، ثمّ عزّزها المرحوم مصطفى جمال الدين (الذي شرفت بالتعرف إلى ابنه محمد) مطلع السبعينيات في كتابه البديع (الإيقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة)، ودافع عن الفرضية التي تعتقد أنّ (الكوليرا) لا تمت بصلة إلى الشعر الحر، نقاد وعروضيون كثر منهم نور الدين صمود وسلمى الخضراء الجيوسي ومحمد علي الرباوي…
وبعد التحليل انتهيتُ إلى أنّ (الكوليرا) هي “شبه موشح شعري أقرع” وأنّ القول بأنها ليست شعرا حرا هو بعضُ حقٍ أريد به باطل! ، وإنْ صدق هذا القول على مقاطعها الثلاثة الأخيرة فإنّه لا يصدق على مقطعها الأول.
إلى آخر التفاصيل الإيقاعية التي قادتني في الأخير إلى توصيف حداثة نازك بأنها حداثة محافظة ، موصولة بالتراث، أو حداثة مقيدة، وسطية متسامحة…
وأزعم أنّ ربع ساعة كان كافيا لي كي ألخّص 26 صفحة!
وكم كان سروري كبيرا وأنا أرى الصديق الناقد الكبير د. عبد الله إبراهيم ينتظر نزولي كي يسلّم عليّ –مرة ثانية- ويشكرني شكرا جميلا على “جودة مداخلتي! ”
فضلا عن انطباعات إيجابية كثيرة أخرى أسمعنيها كثير من الحاضرين، فلله الحمد.
الجميل أنّ القائمين على المؤتمر لم يعطونا شهادات مشاركة بل أهدونا ما هو أجمل بكثير (مجسّم “ملائكي” فاتن، وشيء آخر لا أبوح به! ).
في شارع المتنبي :
هل يمكن زيارة العراق دون الذهاب إلى شارع المتنبي؟!
اللهم لا!
لكنني كنتُ في النجف حين كانوا في زيارة ذلك الشارع الأسطوري الذي صار عنوانا للقراءة والكتابة، وللثقافة برمتها، وكان لا بدّ أن آخذ نصيبي من الشارع بأثر رجعي!
استعنتُ بصديقي النبيل فاضل التميمي تارة أخرى…
وبسرعة خاطفة كنّا هناك، مع الدكتور خليل والدكتور علوي الهاشمي .. شارع عريض بطول يقارب الكيلومتر، لا تطؤه أيّ سيارة، تتوزّع على جانبيْه عشرات المكتبات والورّاقات بأسماء معلومة، وقد فُرشت الكتب الكثيرة على قارعة الشارع..
لم نجد الكثير الذي كنا نسمع به! لسوء حظنا كان الوقت مساء، وكان يومُنا خميسا وليس جمعة!
اقتنيتُ “البرنيطة” البغدادية، تلك القبعة الملكية التي سادت في زمن الملك فيصل الأول عليه السلام (تذكرتُ ما قاله لي صديقي عبد الله إبراهيم: إلغاء الملكية كان خطيئة كبرى في تاريخ العراق الحديث)، لبستُ “البرنيطة” (نحن أيضا نستعمل هذه التسمية العثمانية في الجزائر، ولكن العراقيين يسمونها “السدارة”)، امتدح لي البائع جمالها على رأسي، قلتُ له : تَتْبَغْدَدْ عليّ وانا من بغداد! ضحك وقال للتميمي : انظر ماذا يقول الجزائري!
الحقيقة أنني سرقت هذه العبارة/ المثل الشعبي من أغنية كاظم الساهر المعروفة!في الشارع أيضا، أدركتُ المعنى العميق لقصيدة السياب الشهيرة (شناشيل ابنة الجلبي)، حين رأيتُ تلك النوافذ الصغيرة المزخرفة التي يسمّونها (الشناشيل). ينتهي شارع المتنبي إلى تمثال المتنبي العظيم، الواقع أعْلى ساحل دجلة!
أخذنا صورا كثيرة مع المتنبي، وتجوّلنا في (السراي) بين أحضان التاريخيْن العثماني والملكي للعراق، قادنا الطريق إلى مقهى ومرطبات (الحاج زبالة)؛ محلّ عريق عمره 123 سنة كاملة برغم سوء التسمية!
انتبه صاحب المحل إلى “برنيطتي” التي كنتُ ألبسها بطريقة خاطئة، صحّح لي الكيفية، ثمّ أخرج “سدارته” ولبسها بطريقة مثالية…. كان صديقنا الكبير علوي الهاشمي يشكو ثقلا في الممشى، لم نشأ أن نثقل عليه أكثر، وكان لا بدّ من العودة إلى (المنصور).
الاختتام بعد نحو ساعتين من الزمن، ولستُ قادرا على حضوره لأنني سأسافر هذه الليلة!
لا بدّ من التضحية بقصائد شوقي بزيع وآدم فتحي ومخلص الصغير وأجود مجبل و هناء أحمد وأحمد جار الله ياسين…، أعرف أنهم سيتألقون وسأكون الخاسر الكبير؛ ما باليد حيلة!
تذكرتُ صديقتي الناقدة الكبيرة بشرى موسى صالح التي جاءت للقائي بالأمس ولم تجد مكانا في مسرح يتّسع لأكثر من 600 مكان، لكنها كانت وفية ونبيلة جدا، والدليل ماثل أمامي!
شربتُ شايا عراقيا معها ومع عبد الله إبراهيم، كان مسْك ختامِ رحلتي الرائعة!
حب عراقي يطوّقني من كل جانب !
لقد سقاني العراقيون من الحب والجمال، في ثلاثة أيام، ما يكفيني ويَقيني الجفاف العاطفي سنوات طويلة، تماما كما في أغنيتهم الخالدة (رغيف الحلو يكفيني سنهْ)!
لا أدلّ على الحب العراقي من كلمتيْ (حبيبي! بتنغيم عراقي خالص)و(زين) اللتين تترددان على كل لسان!
حظيتُ بما لم أحظ به في أي دولة أخرى طوال حياتي..
تعرّفتُ إلى جمهور نخبوي مثقف جدا من طوائف شتى..
لا مذهب للحب العراقي! .. توليفة عاطفية يصنعها الشيعي والسني والكردي والآشوري…، حتى تلك (الفتنة الطائفية) التي فتكت بالعراق بعيْد 2003 يبدو أنها صارت من الماضي…
لا أدري كيف تسلّل اسمي إلى قلوب العراقيين، لكن يبدو أنّ كتابي (إشكالية المصطلح) قد سوّقني بشكل مثالي جدا!
لقد بُرمج في بعض الجامعات العراقية، ووزّع في المكتبات بشكل واسع، أخبرني د سراج محمد أنّه بيع بــ 25 دولارا (وهو أربعة أضعاف سعره الحقيقي! ) ومع ذلك نفد!
حين عرّفَنا أنا وعلوي الهاشمي صديقي التميمي إلى تلميذه د.عبد الكريم الزيباري، حدّق في علوي وقال : هذا أبو الإيقاع، ثمّ حدّق في وجهي بعينين كرديتين حادّتين وقال: وهذا أبو المصطلح! …
وآخر طالب دكتوراه من مدينة المسيّب حين بلغته رغبتي في الوقوف على جسر المسيّب فعل كل مستحيل كي يجيئني إلى بغداد ليقودني نحو رغبتي، وظلّ يدعو ويصرّ وأنا وصديقي القاصد نتذرّع ونعتذر، حتى لا أدري كيف استطعنا أن نتملّص من بين يديه الكريمتين !
وقد أتيح لي أن ألتقي بأصدقاء قدماء سبق لي لقاؤهم، ومنهم عبد الله إبراهيم الذي لم أره منذ 2005، أخبرني بفرحه حين رأى اسمي في مطوية البرنامج وقال لي: أنتم الجزائريون تشبهوننا لكنكم أكثر شراسة منا!
فرحتُ كثيرا للقائه، وللفتوحات الكبرى التي حقّقها مؤخرا (خصوصا فوزه بجائزتيْ الشيخ زايد والملك فيصل العالميتين)، هو الآن في مقامه التركي الزكي، يعيش نقاهة إبداعية ومعرفية مع “أسمائه” الجميلة/شريكته في الحياة والسرد! ، في مرحلة ما بعد حرب الثلاثين سنة (أعني معركة “موسوعة السرد العربي” التي أنهاها بنصر علمي مبين! ).
كما التقيتُ الشاعر الكبير وليد الصراف، وقد كنا معا منذ شهرين فقط في الكويت، و د. فاضل الكعبي الذي كان معنا منذ أشهر في ورقلة بجنوب الجزائر…
كذلك التقيتُ كثيرا من أصدقائي الافتراضيين الأعزاء كفاضل التميمي وحسين القاصد اللذين لن أنسى جميلَهما أبدا، وكذلك الدكاترة رحمان غركان و د.عبد العظيم السلطاني ود. آلاء السعدي ود. هناء أحمد وأحمد جار الله ياسين و د. جاسم الخالدي الخالدي و د.صباح التميمي ، والإعلامي المبدع علي لفتة سعيد…
وأعجز عن ذكر أجمل الأسماء الأخرى (ومعظمها برتبة شاعر أو دكتور).
ومن مظاهر الحب الذي أنعم الله عليّ به في العراق أنّ هذا قد أهداني ساعة، والآخر لباسا أو سبحة أو خاتما أو كتابا أو كلاما جميلا (وذلك أضعف الإيمان! )…
وممن أهدوني كتبا نقدية كثيرة (لاحظت منها ازدهار النقد الثقافي ونقد النقد في العراق بشكل لا يكاد يُنافس! ): حسين القاصد الذي أهداني مشروعه النقدي الثقافي كاملا، فضلا عن مشروعه الشعري، وسمير الخليل الذي أغدق عليّ بمنشوراته القيمة ومنها معجمه/دليله الثقافي الذي كنتُ اشتريتُ طبعته الأولى في الجزائر ففاجأني بطبعة ثانية مهذبة مضاعفة الحجم!
ورحمان غركان الذي أهداني ثلاثة من كتبه الخمسين أو تزيد! وهو ظاهرة تأليفية عجيبة في النقد المعاصر! أكبُرُ رحمان بثلاثة أشهر لكنه يكبرني بثلاثين كتابا، وقد شرع مؤخرا في نشر سلسلة كتب نقدية شهرية (12 كتابا كل سنة!) لا تبدو عليها آثار الاستعجال النقدي إلا في قلّة هوامشها!
ومن جميل ما أُهدي لي في باب نقد النقد كتابان لعبد العظيم السلطاني، وآخر لفاضل التميمي (كان للنقد الجزائري منه نصيب كبير! ).
وكذلك تعرّفتُ إلى أسماء أخرى محترمة جدا أدبيا وإنسانيا كالناقد الكبير فاضل ثامر، و علي الفواز رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، و الشاعر الثائر د. سراج محمد ، ود. علي متعب جاسم، ود. علاوي كشيش، ود. حمد الدوخي،….
وقد تألمت كثيرا للغياب الطارئ لصديقي الكبير د. محمد صابر عبيد .
وأمّا من خارج العراق فقد جدّدت صلة المحبة الكبيرة التي تربطني بشاعر البحرين وناقدها الكبير د. علوي الهاشمي، وتعرّفت إلى رئيس رابطة الكتاب الأردنيين الشاعر أكرم الزعبي، كما التقيتُ الشاعر اللبناني الكبير شوقي بزيع الذي رأيته في الجزائر ولم أكلمه حينها!
كذلك رأيتُ الشاعرة الناقدة العُمانية د.سعيدة بنت خاطر التي كنتُ التقيتُها في الجزائر وقسنطينة، لكنّني لم أستطع أن أتحدّث إليها هذه المرة.
إضافة إلى الشاعرين: التونسي الكبير آدم فتحي، والمغربي رئيس دار الشعر بتطوان مخلص الصغير؛ وهو -كاسمه- من أخلص الناس وأطيب خلق الله جميعا!
وقد جئنا معا في في طائرة واحدة ولم نكن نعلم حتى جمعنا مطار بغداد!
أما الحبيب عارف الساعدي فقد كان مهندس الحبّ كله!
العودة من الحج إلى (كعبة المجد والخلود)..وجدال مع جمركي مثقف جدا!
بعد قليل سأغادر بغداد؛ “جنة الأرض” كما وصفها صاحب (آثار البلاد وأخبار العباد)… عاصفة ترابية مفاجئة تجتاح بغداد الآن، أتفرّج عليها من نافذة غرفتي برعب شديد…
نزلت إلى بهو الاستقبال لإتمام إجراءات الخروج، قال لي العزيز الغالي عارف الساعدي : ستذهب إلى المطار وستعود إن شاء الله! (مبتسما وملمّحا إلى استحالة الرحلة الجوية).
ودّعنا أحبابنا بالأحضان، أنا وآدم فتحي .. انطلقت سيارتنا الفاخرة بسرعة جنونية في تلك الأجواء الرهيبة، كل شيء كان “ملكيا” في مطار بغداد، مثل وصولنا وأجمل: قاعة شرفية موصولة بالسجاد الأحمر، قهوة وحلويات، تذليل لكل الصعوبات المتعلقة بأمتعتي، خاصة أنني –خلافا لصديقي التونسي- مرتبط بشركتين للنقل مختلفتين (تركية وجزائرية).. كل شيء مرتّب كما ينبغي بين بغداد واسطنبول.
لكن كل المتاعب بدأت في رحلة اسطنبول /الجزائر العاصمة المدجّجة بقوافل من الحجاج المعتمرين الذين ولدوا في عجل!
والحمد لله على كل حال!
وصلنا إلى مطار الجزائر العاصمة..
انتظرتُ أمتعتي ساعة كاملة أو أكثر، وحين حملتها وهممت بالخروج وجدتُ الجمارك لي بالمرصاد!:
– ماذا يوجد في هذه الحقيبة؟
– كتب فقط!
– لا بدّ أن نطّلع عليها!
قالها الجمركي بأسف واحترام شديدين…
عزّ عليّ أن أعيد فتح حقيبة غلّفتها في مطار بغداد بإحكام شديد.. لكن إصرار الجمركي ومسؤوله كان أشدّ!
شرحت له المهمة (الأدبية) البحتة التي كنتُ فيها، أخرجتُ له المجسم البرونزي لنازك، قلت له: هذه هدية من رئيس الوزراء العراقي، هل تعرف نازك الملائكة؟
ضحك وقال لي: من منّا لا يعرفها؟ وبدأ يعدّد لي أسماء الكتاب وعناوين الروايات العالمية التي قرأ، وأنا مندهش جدا وفخور جدا بجمركي جزائري على هذا القدر الثقافي العالي…ازدادت دهشتي حين سألني عن رواية (تغريبة القافر) المتوّجة بالبوكر، وأنّه يريد نسخة منها، قلتُ له : لديّ نسختها الإلكترونية، إن شئتَ حوّلتها لك! قال : لا، شكرا، أريدها ورقية …
ثم بدأ يجادلني في (نهج البلاغة) وفي صحة نسبته إلى الإمام علي، وأفكار محمد شحرور، والفوضى التي عمّت معرض الجزائر الأخير بسبب كتبه…، وأنا مصاب بذهول جميل، فتحتُ له حقيبتي إثره، وقلت له: هذه كتبي فافعل ما تؤمر! أنا فخور جدا بك وفقط. قلَّب ثلاثة كتب منها بحياء كبير، وقال لي : تفضّل يا أستاذ…
كأنّ مسؤوله الذي كان يراقبنا من بعيد لم يقتنع بعمله، فجاء يسأله: هل اطّلعت على الكتب جميعا؟ قال: نعم، وهي كلها كتب أدب…
تفصلني عن رحلة قسنطينة أكثر من سبع ساعات كاملة، قضيتها في التهام بعض تلك الكتب التي خفّفت عني آلام الانتظار… أخيرا وصلتُ بسلام، والقلب لا يزال معلّقا ببغداد!
فسلام عليها .. سلام على الأعظمية والكاظمية وما بينهما!
سلام على الرصافة والكرخ والنهر الدافق بين بين!
سلام على مراقد الأئمة الأطهار!
سلام على “عيون المها” اللائي جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري!
سلام على الأحباب من أخمص (شط العرب) حتى رأس العراق!
وعلى صديقي العزيز عارف الساعدي ألف سلام!
بقلم الأديب الجزائري الدكتور
يوسف وغليسي